Muslim Library

تفسير ابن كثر - سورة الأنعام - الآية 79

خيارات حفظ الصفحة والطباعة

حفظ الصفحة بصيغة ووردحفظ الصفحة بصيغة النوت باد أو بملف نصيحفظ الصفحة بصيغة htmlطباعة الصفحة
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) (الأنعام) mp3
أَيْ أَخْلَصْت دِينِي وَأَفْرَدْت عِبَادَتِي " لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض " أَيْ خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْر مِثَال سَبَقَ " حَنِيفًا " أَيْ فِي حَال كَوْنِي حَنِيفًا أَيْ مَائِلًا عَنْ الشِّرْك إِلَى التَّوْحِيد وَلِهَذَا قَالَ " وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ " وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْمَقَام هَلْ هُوَ مَقَام نَظَر أَوْ مُنَاظَرَة فَرَوَى اِبْن جَرِير مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَقَام نَظَر وَاخْتَارَهُ اِبْن جَرِير مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ " لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي " الْآيَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ ذَلِكَ حِين خَرَجَ مِنْ السَّرَب الَّذِي وَلَدَتْهُ فِيهِ أُمّه حِين تَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَمْرُود بْن كَنْعَان لَمَّا كَانَ قَدْ أُخْبِرَ بِوُجُودِ مَوْلُود يَكُون ذَهَاب مُلْكه عَلَى يَدَيْهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَان عَامَئِذٍ فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمّ إِبْرَاهِيم بِهِ وَحَانَ وَضْعهَا ذَهَبَتْ بِهِ إِلَى سَرَب ظَاهِر الْبَلَد فَوَلَدَتْ فِيهِ إِبْرَاهِيم وَتَرَكَتْهُ هُنَاكَ وَذَكَرَ أَشْيَاء مِنْ خَوَارِق الْعَادَات كَمَا ذَكَرَهَا غَيْره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف وَالْحَقّ أَنَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ فِي هَذَا الْمَقَام مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَان مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَة الْهَيَاكِل وَالْأَصْنَام فَبَيَّنَ فِي الْمَقَام الْأَوَّل مَعَ أَبِيهِ خَطَأَهُمْ فِي عِبَادَة الْأَصْنَام الْأَرْضِيَّة الَّتِي هِيَ عَلَى صُوَر الْمَلَائِكَة السَّمَاوِيَّة لِيَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى الْخَالِق الْعَظِيم الَّذِينَ هُمْ عِنْد أَنْفُسهمْ أَحْقَر مِنْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَإِنَّمَا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ مَلَائِكَته لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْده فِي الرِّزْق وَالنَّصْر وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ . وَبَيَّنَ فِي هَذَا الْمَقَام خَطَأَهُمْ وَضَلَالهمْ فِي عِبَادَة الْهَيَاكِل وَهِيَ الْكَوَاكِب السَّيَّارَة السَّبْعَة الْمُتَحَيِّرَة وَهِيَ الْقَمَر وَعُطَارِد وَالزُّهَرَة وَالشَّمْس وَالْمِرِّيخ وَالْمُشْتَرَى وَزُحَل وَأَشَدّهنَّ إِضَاءَة وَأَشْرَفهنَّ عِنْدهمْ الشَّمْس ثُمَّ الْقَمَر ثُمَّ الزُّهَرَة فَبَيَّنَ أَوَّلًا صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الزُّهَرَة لَا تَصْلُح لِلْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهَا مُسَخَّرَة مُقَدَّرَة بِسَيْرٍ مُعَيَّن لَا تَزِيغ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا تَمْلِك لِنَفْسِهَا تَصَرُّفًا بَلْ هِيَ جُرْم مِنْ الْأَجْرَام خَلَقَهَا اللَّه مُنِيرَة لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَم الْعَظِيمَة وَهِيَ تَطْلُع مِنْ الْمَشْرِق ثُمَّ تَسِير فِيمَا بَيْنه وَبَيْن الْمَغْرِب حَتَّى تَغِيب عَنْ الْأَبْصَار فِيهِ ثُمَّ تَبْدُو فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة عَلَى هَذَا الْمِنْوَال وَمِثْل هَذِهِ لَا تَصْلُح لِلْإِلَهِيَّةِ ثُمَّ اِنْتَقَلَ إِلَى الْقَمَر فَبَيَّنَ فِيهِ مِثْل مَا بَيَّنَ فِي النَّجْم ثُمَّ اِنْتَقَلَ إِلَى الشَّمْس كَذَلِكَ فَلَمَّا اِنْتَفَتْ الْإِلَهِيَّة عَنْ هَذِهِ الْأَجْرَام الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ أَنْوَر مَا يَقَع عَلَيْهِ الْأَبْصَار وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِع " قَالَ يَا قَوْم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ " أَيْ أَنَا بَرِيء مِنْ عِبَادَتهنَّ وَمُوَالَاتهنَّ فَإِنْ كَانَتْ آلِهَة فَكِيدُونِ بِهَا جَمِيعًا ثُمَّ لَا تَنْظُرُونَ" إِنِّي وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ " أَيْ إِنَّمَا أَعْبُد خَالِق هَذِهِ الْأَشْيَاء وَمُخْتَرِعهَا وَمُسَخِّرهَا وَمُقَدِّرهَا وَمُدَبِّرهَا الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوت كُلّ شَيْء وَخَالِق كُلّ شَيْء وَرَبّه وَمَلِيكه وَإِلَهه كَمَا قَالَ تَعَالَى " إِنَّ رَبّكُمْ اللَّه الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثُمَّ اِسْتَوَى عَلَى الْعَرْش يُغْشِي اللَّيْل النَّهَار يَطْلُبهُ حَثِيثًا وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْق وَالْأَمْر تَبَارَكَ اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ " وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون إِبْرَاهِيم نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَام وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّه فِي حَقّه " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رُشْده مِنْ قَبْل وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمه مَا هَذِهِ التَّمَاثِيل الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ " الْآيَات وَقَالَ تَعَالَى " إِنَّ إِبْرَاهِيم كَانَ أُمَّة قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اِجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنْ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْك أَنْ اِتَّبِعْ مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " وَقَالَ تَعَالَى" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دِينًا قِيَمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " كُلّ مَوْلُود يُولَد عَلَى الْفِطْرَة " وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عِيَاض بْن حَمَّاد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " قَالَ اللَّه إِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء " . وَقَالَ اللَّه فِي كِتَابه الْعَزِيز" فِطْرَتَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لِخَلْقِ اللَّه " وَقَالَ تَعَالَى " وَإِذْ أَخَذَ رَبّك مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتهمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسهمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى " وَمَعْنَاهُ عَلَى أَحَد الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ " فِطْرَتَ اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا " كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقّ سَائِر الْخَلِيقَة فَكَيْفَ يَكُون إِبْرَاهِيم الْخَلِيل الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه أُمَّة قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَاظِرًا فِي هَذَا الْمَقَام بَلْ هُوَ أَوْلَى النَّاس بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَة وَالسَّجِيَّة الْمُسْتَقِيمَة بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا شَكّ وَلَا رَيْب وَمِمَّا يُؤَيِّد أَنَّهُ كَانَ فِي هَذَا الْمَقَام مُنَاظِرًا لِقَوْمِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الشِّرْك لَا نَاظِرًا قَوْله تَعَالَى .
none
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

كتب عشوائيه

  • المشروع والممنوع في المسجد

    المشروع والممنوع في المسجد : المسجد مدرسة الرجال، ومحضن الأبطال، وبقدر الاهتمام به وتفعيل دوره يوجد الرجال، وفي هذه الرسالة بيان أهمية المساجد في حياة المسلم، مع بيان المشروع والممنوع في المسجد.

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/66732

    التحميل:

  • الآل والأصحاب في كتاب رب الأرباب

    الآل والأصحاب في كتاب رب الأرباب: هذا البحث يعرِض لما ورد في كتاب الله من آيات كريمة تُبيِّن فضل الرعيل الأول من الآل والأصحاب - رضي الله عنهم -، وإنما كان الاقتصار على الكتاب دون السنة؛ لأن كتاب الله محل اتفاق وقبول بين أفراد الأمة الإسلامية فلا يجد المخالف سبيلاً إلى مخالفته، إلا محض العناد والمكابرة لكلام الله - سبحانه -. وتعمَّد المركز في وضع الكتاب الجمعَ بين مناقب الآل والأصحاب؛ لأن أغلب ما كُتب في هذا الموضوع إما أن يقتصر على ذكر مناقب آل البيت فقط، أو مناقب الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، فجاء هذا البحث جامعًا لمناقب الفريقين، لبيان العلاقة الوثيقة بينهما.

    الناشر: جمعية الآل والأصحاب http://www.aal-alashab.org

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/335471

    التحميل:

  • بشارات العهد الجديد بمحمد صلى الله عليه وسلم

    ذكر المؤلف في كتابه البشارة بمحمد صلى لله عليه وسلم في كتب الإنجيل، وهذه البشارات أثبت فيها المهتدون اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة والإنجيل، وذكر كذلك كيف استبدلت هذه الأسماء وغيرت الأوصاف في الطبعات الحديثة، كفراً وحسداً وحقداً.

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/260397

    التحميل:

  • أطايب الجنى

    أطايب الجنى: قال المصنف - حفظه الله -: «فإن من توفيق الله وتيسيره أن جعل هذا العصر عصر التقنيات العالية، وجعلها من وسائل نشر الخير والعلم لمن أراد. وأحببت أن أدلو بدلو، وأسهم بسهم في هذا المجال؛ عبر جوال: «أطايب الجنى» فكتبت مادتها وانتقيتها، والتقطتها بعناية - كما يلتقط أطايب الثمر - وطرزتها وجملتها بكتابات أدبية رائقة .. وأحسب أنها مناسبة لكافة شرائح المجتمع».

    الناشر: دار القاسم - موقع الكتيبات الإسلامية http://www.ktibat.com

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/345922

    التحميل:

  • 100 فائدة من سورة يوسف

    100 فائدة من سورة يوسف: بحث قيم يشرح فيه الشيخ محمد بن صالح المنجد حفظه الله سورة يوسف، مبينًا الدروس والعبر والأحكام منها.

    المصدر: http://www.islamhouse.com/p/44756

    التحميل:

اختر سوره

اختر اللغة